الثلاثاء، 11 مايو 2010

قراءة في ديوان مهد الغلا

هذه القراءة من كتابات الشاعر علي الفسي – بنغازي - عن موقع الإجدابي .
الإغفاء في مهد الغلا
( إذا لم يأتِ الشعر طبيعيًّا كما تنمو الأوراق على الأشجار فخير له ألا يأتي ) - جون كيتس

(مهد الغلا ) أول إصدار للشاعر الغنائي المبدع عبد السلام الحجازي ، هو طموحٌ لشاعر يصوغ اللُّغة وطنًا ، و يثوي فيها , ولهُ مطلق المكان والزمان ، و يصيِّر الشِّعرَ هويَّةً ومأوى ، تلك ماهيَّة ذات الشاعر ،كأنها فضاء للصمت والصخب معًا ، جرعات من الفكر الوجودي يؤدِّي إلى اندلاق المعنى وتسرُّبه إلى وجدان المتلقي.وإذا كنت ممَّن يبحث عنِ القصيِّ والعصيِّ ستقتحمك النصوص هنا برغبة متوحِّشة لتقودك إلى منابع الدهشة وتستعيد زمام البدايات في احتفالية دائمة تعانق بها عوالم ملحمية بحثًا عن تأسيس ٍمختلف للماضي في قالب الحاضر,وللحاضر أحيانًا بقوالب مُفَلسَفة . ماذا بقي للشعراء الذين يسكبون أحلامهم على ضفاف الكلمات . قصيدة أنوثتها مملوءةً بالدفء,مشبعة بالفتنة العارمة ، متوهِّجةً ،يغمرها الحلم ويفتن بها الممكن واللا ممكن.
مهد الغلا . .منذ الكلمة الأولى في القصيدة الأولى ، تجد أن وتيرة اللغة النمطية الشائعة كُسرت وأن الكيفية التي بُـنيت عليها هيئة القصيدة ، تتجاوز المعتاد وتجترح لغة مرنة معبرة غير تقليدية، حتى أنك تشعر أنها شيء مألوف ، يأتيك بسلاسة وعفوية ، خالقة هيئتها الضرورية لنسج الانسجام وتماسك الرؤية الشعرية التي تؤسِّس تجربةً كاملةً.
من قلب حايس ..
ما عرف طعم السكينة ..
من وجه عابس ..
يبتسم بسمة حزينة ...
من روح في حضن الرَّجا ..
نامت وتحلم بيكم .
وإيدين ما تحس بدفا..
إلاّ بضمْها ليديكم ..
لأحباب كانوا هنا ..
وغابوا علي من سنة ..
حايوا تباريح الغلا الدَّفينة .
بعد التحية والمحبة والأشواق الحارّة ..
بعد التحية والمحبة والأماني السارّة ..
يا هل ترى انتو كيفنا .. امرايفين ..؟
وين الحديث يجيبكم .. تنده العين دموعها ..
ايجن سايلات ارياف؟
يا هل ترى أنتو كيفنا .. خايفين ..؟
من عين الحسود تصيبكم .. وتعطش نواوير الغلا ..
تذبل اتصيف اصياف ..؟
بهذه الإيقاعات الضوئية الباهرة يكتب الحجازي ( الرسالة) و يغزل من اللغة صورًا فنية قادرة على التجذُّر في وجدان المتلقي لتصبح حالة للمناغمة الجمالية الخالصة. تجعل من رقة المشاعر حاضرة بمشهدية لافتة دون الإغراق في الرومانسية ويردُّ بذلك عمَّن قالوا:( إن شعر عبد السلام الحجازي يخلو من الرقة والرومانسيَّة ) بكلمات باذخة الإحساس ينساب فيها الجمال كما ينساب الماء في عمق الغدير : فلا يفلُّ الجمال إلا الجمال .
لك قلب طاغي في الغلا ..
ينوي خلاف وخلاف .. ولي قلب صابر .
ولك جفن في دنيا الغلا ..
داعب أطياف وأطياف .. ونا طيف عابر ..
ـ لم أستطع أن أتجاهل هذه الكلمات فقد نـُحِتت بعناية من صميم المعنى لتجعل الكتابة الشعرية هنا مخيلةً راقية تغازل بوادر القصيدة وتخلق منها شكلاً مبتكرًا ورئة يملؤها الشهيق وهي وطن مطلق وهي وهج يغمره الحلم وطيف يُفتن به المكان، ماذا بقي من صور راقصة تضيف شيئًا جميلاً آخر إلى الشعر الغنائي.
كيف ما الشمس وقت الشروق اتبان ..
تشرق علي طلاَّتك ..انحس بدفا يا احبيِّبة ..
يملا جوانب داري .
ولما الشمس في غروبها تلبس قناع ألوان..
سبحان كيف وجناتك ..انحسَّك احذاي اقريِّبة ..
ونهمس لها بأشعاري .................
بردان .. يا شمس الدفا دفِّيني ..
نا عاشقك بالفطرة ..
عشق النظر للضيّ…….............
...ونامت علي وساد الأفق ..
تحلم برحلة أمس ..
نامت ،وغطَّاها الشفق ..
نوم الهنا يا شمس .
وها هي أراها تلوَّن الأفق .. ( الشمس ) ، هي القصيدة التي نحاول كتابتها دائمًا بصورة جديدة ، تتناص مع المأثور الشعري دون أن تتطابق معه ، رُسمت كلماتها ورُصَّت دلالاتها بعناية شديدة ، هذه (الشمس) التي تجعلك تستغني عن شغف الموسيقى مكتفيًا بهذه الصور التي تندلق بكثافة وتطبع شكلاً من أشكال التّضافر بين الملفوظات في مظهر من مظاهر الحضور الشّعري والسّردي النادر.(شمس).. تشاكس الشاعر وهذا الأخير يشاكسها بحواريَّة مبتكرة في سبيل امتلاك لبِّ القول الشعري.
ثم ماذا ..؟؟ لم أتكلم عن هموم الأمة في وجدان شاعرنا فقد جعل من أوجاعها ألمًا يأوي إليه ، وزمنًا يحياه.. ( بغداد .. يا خير أمة .. حكاية الشهيد .. سناء ).هذه النصوص أكثر التصاقًا بالواقع لا من ناحية ما تضمره من ممارسة للقلق وكشفٍ وتعريٍة لكل ما وراء الأحداث فحسب ، بل عبر اللغة التي تكتب نفسها كما هي ... تطيح بكل المتواليات التراتبية فيتلبَّد الأفق الفكري بضحايا هذا الوضع المتأزم.إن الشاعر وإن كان ينسج الحروف لاحتواءٍ متعطش لطفولته فهو لا يلجأ لهذا الاحتواء إلا لكي يطال جوهر الواقع والأمكنة والفضاءات ويُسقط علاقة الأنا بالآخر ويحاول أن ينتهك أحلامه ليحيلها من أضغاث تتراءى إلى ما ورائية عابقة بكل ما يثلج الصدر ، وكل ما يفضي إلى البوابة المثلى للخروج نحو شهوة مدهشة تنجلي عن فتنة بليغة ، يفتتن بها ليتحقق شيء من الإبداع والجمال لتؤكد خصوصيتها وهويتها المنشودة.ولولاها يكون الشعر مثل حجر أو حائط صامت .. وهكذا كان (( مهد الغلا )).

هناك 8 تعليقات:

  1. في الحقيقة لقد قرأت هذا المقال هنا مرتين ، وها أنا أقرأه للمرة الثالثة ولكنني هذه المرة لم أستطع تجاهل التعليق عليه .. الكاتب علي الفسي أسلوبه يدل على ثقافة عالية وسعة اطلاع عليه أهنئه عليهما ، واستدلالاته فيها الكثير من الجمال ، ولكن أتساءلعن الجملة التالية ( ويردُّ بذلك عمَّن قالوا:( إن شعر عبد السلام الحجازي يخلو من الرقة والرومانسيَّة )هل حقا أن هناك من يتهم أشعار الحجازي بالبعد عن الرومنسية؟. إن وجد فعلا من يدعي ذلك فلا يجب أن يستفزك استاذ علي لدرجة أن تسوق الدليل لإقناعه فهو ما ادّعاه إلا تعنتاً .. أستاذ علي أنت صاحب قلم رائع صلت به وجلت بقوة ، وإن كنت أرى أن ديوان مهد الغلا يحتاج إلى أكثر من دراسة للوج إلى خبايا الجمال فيه .. عذراً لإطالة .

    ردحذف
  2. نورا إبراهيم15 مايو 2010 في 6:42 ص

    علي الفسي

    لك لغة أخرى تخطف بها قلوبنا
    وتسلب بها عقولنا ...
    فتستحوذ على مشاعرنا الانبهار ..
    شكرا للقراءة البهية لشاعر - الجبل عبد السلام الحجازي البهي

    ردحذف
  3. ((الشعر فن ملامسة الآخرين)) .. نزار
    الأخت منى
    الشاعرة الرائعة نورا ابراهيم
    أشكر إطرائكما الجميل وأستطيع أن أقول أنني لست ناقداً متخصصاً لكن هذه الكلمات ما هي إلا ( فلاشات ) بضوء خافت على هذه النصوص الموغلة في الإبداع .
    أما عن سؤال عمن يرمون عبدالسلام باللّا رومانسية فقد بنا هؤلاء آرائهم من خلال بعض القصائد الوطنية القومية الحماسية المميزة عند الحجازي .. وبعض القصائد العاطفية الرافضة إن جاز التعبير..مثل ( مش لأني ، تعملي معروف شدي رحيلك عني ، ضحية وهم)
    فأحببت أن أشير إلى شيء من ديناميات الألوان والخيال في ( مهد الغلا ) .

    تحياتي

    ردحذف
  4. يؤسفني كثيراً بأنني لم أستطع أن أتحصل على ديوان مهد الغلا .. وتعزيني هذه القراءة إلى حد ما.
    قراءة جميلة لشاعر كبير لم أقراء له سوى القليل .
    تحية للناقد علي الفسي والشاعر عبدالسلام الحجازي .
    وأرجو ان إلتقي بكم معاً في قصائد أخرى .
    أختكم .. سهام .

    ردحذف
  5. أعجبتني هذه الدراسة ، ولكنني أراها تشتمل على المديح والإعجاب فقط مما يجعلني أتساءل : ألا توجد عند الحجازي سقطات ؟ ألا توجد بعض الهنات في أشعاره ؟.. هذا ما نحتاج إليه لنرتقي بالإبداع والمبدعين .. لا أن نصفق للجميع فنسيء لهم من حيث لا ندري .
    ما قلته لا ينقص في قدر الحجازي ومكانته الأدبية في شيء فهو شاعر كبير لا يكاد يوجد له نظير وأنا أحبه وأحترمه وأعتز بأنه مبدع من ليبيا نعتز به كثيراً .

    ردحذف
  6. استاذ علي الفسي احيي جهدك واختيارك الذواق ولكنك تقول/
    (وإذا كنت ممَّن يبحث عنِ القصيِّ والعصيِّ ستقتحمك النصوص هنا برغبة متوحِّشة لتقودك إلى منابع الدهشة وتستعيد زمام البدايات في احتفالية دائمة تعانق بها عوالم ملحمية بحثًا عن تأسيس ٍمختلف للماضي في قالب الحاضر,وللحاضر أحيانًا بقوالب مُفَلسَفة..)!
    فكيق تربط بين هذا وبين قولك ...
    (وتجترح لغة مرنة معبرة غير تقليدية، حتى أنك تشعر أنها شيء مألوف ، يأتيك بسلاسة وعفوية) ،
    الافكار نوعان افكار عصية تستهوي محبي الاستكشاف والاختلاف، وافكار سهلة تستهوي محبي الاتلاف،فكيق تصف النصوص بانها تقتحم ثم تصفها بانها سلسة...؟!!!
    احترامي...

    ردحذف
  7. الكاتبة وفاء الحسين
    في البداية أشكرك على المتابعة الجيدة والمثابرة وأحيي فيك روح النقد المتأججة لديك .
    وجدت نفسي مضطراً للإجابة على سؤالك رغم أني لست من أنصار تبرير النص
    ((وإذا كنت ممَّن يبحث عنِ القصيِّ والعصيِّ ستقتحمك النصوص هنا برغبة متوحِّشة لتقودك إلى منابع الدهشة )).
    إن القصي والعصي هنا هي الدهشة التي ليس من السهل على أي مبدع أن يوصل القارئ إليها ،وأن النصوص ((ستتلقفك بوحشية ))،وهذا تعبير مجازي لا يُفهم على أن أنها نصوص متخشبة أو منفِّرة أو عصية على التفسير والتأويل مما لا يتعارض مع أن اللغة التي كتبت بها النصوص هي لغة سلسة تتماهى مع السهل الممتنع .
    وأرى أنك أغفلت جزءاً من النص في الاقتباس الثاني الذي يوضح اللبس الذي وقعت فيه
    ((وأن الكيفية التي بُـنيت عليها هيئة القصيدة ، تتجاوز المعتاد وتجترح لغة مرنة معبرة غير تقليدية )) فهناك فرق بين ((الدهشة)) وبين ((الكيفية التي تبنى عليها القصيدة)) وفي النهاية الاثنان ليست أفكاراً .
    تقبلي شكري وتقديري

    ردحذف
  8. عبد السلام الحجازي22 مايو 2010 في 3:38 م

    الأخت منى : أسلوبك أيضاً يدل على ثقافة عالية وسعة اطلاع .. أشكر لك هذه المناصرة ، معرباً عن سعادتي بزيارتك الكريمة .
    الشاعرة نورا ابراهيم : أن كان هناك ثمة بهاء فهو ناتج منكم وإليكم .. شكراً نورا .. شكراً جزيلاً .
    أختي سهام : وأنا أيضاً أتأسف لعدم حيازتك على نسخة من الديوان فأنتِ قائة أفتخر بها كثيراً .. امتناني كبير لزياراتك وتعليقاتك القيمة .
    غير المعرف : أنا أؤيدك في هذا الرأي فأنا لا أكتب قرآنا .. فإن كان لديك رأي فيما أكتب فأنا أستمع إليك بكل ارتياح .. نعم غياب النقد البناء أساء كثيراً للحركة الإبداعية .. أشكرك يا أخي على كل ما قلته في حقّي .
    الكاتب علي الفسي ، الكاتبة وفاء الحسين : من دواعي سروري أن تكون هيدل مدونة للحوار بين أقلام المبدعين وليست للشعر فحسب .. أنا فخور بصداقتكما وبثقافتكما وبتشريفكما لي .

    ردحذف